فصل: تفسير الآيات (74- 75):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (74- 75):

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)}
يقول الحق جل جلاله: {وإن ربك لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ} أي: تخفي {صُدورُهُم وما يُعلنون} أي: يُظهرون من القول. وليس تأخير العذاب عنهم لخفاءَ حالِهم عليه، ولكن له وقت مقدار، فيمهلهم إليه. أو: إن ربك ليعلم ما يخفون وما يُعلنون من عداوتك ومكايدهم لك، وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقونه. وقرئ بفتح التاء، من: كننت الشيء: سترته.
{وما من غائبةٍ في السماء والأرض} أي: من خافية فيهما {إلا في كتاب مبين} في اللوح المحفوظ. يُسمى الشيء الذي يخفى ويعيب غائبه وخافية. والتاء فيهما كالتاء في العاقبة والعافية. ونظائرهما، وهي أسماء غير صفات. ويجوز أن يكونا صفتين، وتاؤهما للمبالغة، كالرواية. كأنه قال: وما من شيء شديد الغيوبة إلا وقد علمه الله، وأحاط به، وأثبته في اللوح المحفوظ. ومن جملة ذلك: تعجيل عقوبتهم، ولكن لكل شيء أجل معلوم، لا يتأخر عنه ولا يتقدم. ولولا ذلك لعَجَّل لهم ما استعجلوه. والمُبين: الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة: أو: مبين لما فيه من تفاصيل المقدورات. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية حث على مراقبة العبد لمولاه، في سر وعلانيته، فلا يفعل ما يخل بالأدب مع العليم الخبير، ولا يجول بقلبه فيما يستحيي أن يظهره لغيره، إلا أن يكون خاطراً ماراً، لا ثبات له، فلا قدرة للعبد على دفعه. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (76- 81):

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)}
يقول الحق جل جلاله: {إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إسرائيل}؛ يُبين لهم {أكثرَ الذي هم فيه يختلفون} من أمر الدين الذي اشتبه عليهم. ومن جملة ما اختلفوا فيه: المسيح، وتحزّبوا فيه أحزاباً، وركبوا متن العند والغلو في الإفراط والتفريط، ووقع بينهم المناكرة في أشياء، حتى لعن بعضُهم بعضاً. وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه، لو أنصفوا وأخذوا به، وأسلموا. يريد اليهود والنصارى، وإن كانت الآية خاصة باليهود. {وإنه}- أي: القرآن {لهُدىً ورحمةٌ للمؤمنين} على الإطلاق، فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولاً أولياً.
{إنَّ ربك يقضي بينهم} أي: بين بني إسرائيل، أو: بين من آمن بالقرآن ومن كفر به، {بحُكْمِه} أي: بعدله؛ لأنه لا يحكم إلا بالعدل، فسمى المحكوم به حكماً. أو: بحكمته، ويدل على قراءة من قرأ {بِحِكَمه}: جمع: حِكمة؛ لأن أحكامه تعالى كلها حِكَم بديعة. {وهو العزيزُ}، فلا يُردّ حُكمه وقضاؤه، {العَليمُ} بجميع الأشياء، ومن جملتها: من يقضي له ومن يقضي عليه. أو: العزيز في انتقامه من المبطلين، العليم بالفصل بين المختلفين.
{فتوكلْ على الله}، الفاء لترتيب ما قبله من ذكر شؤونه- عز وجل- فإنها موجبة للتوكل عليه، داعية إلى الأمر به، أي: فتوكل على الله الذي هذا شأنه. وهذه أوصافه، فإنه موجب لكل أحد يتوكل عليه، ويفوض جميع أموره إليه. أو: فتوكل على الله ولا تُبالي بأعدادء الدين. {إنك على الحق المبين}، تعليل للأمر بالتوكل بأنه الحق الأبلج، وهو الدين الواضح الذي لا يتطرقه شك ولا ريب.
وفيه تنبيه على أن أصحاب الحق حقيق بالوثوق بالله في نصرته. وقد تضمنت الآية من أولها ثناء على القرآن، بنفي ما رموه من كون أساطير الأولين. ثم وصفه بكونه هدى ورحمة للمؤمنين. ثم توعد الرامين له بحُكمه عليهم بما يستحقونه، ثم أمره بالتوكل عليه في كفايته أمرهم ومكرهم.
ثم بيّن سبب طعنهم في القرآن، بأنهم ليس فيهم قابلية الإدراك؛ لكونهم موتى صماً، لا حياة لهم ولا سمعَ استبصار، قال تعالى: {إنك لا تُسمع الموتى}، شُبِّهوا بالموتى لعدم تأثرهم بما يُتلى عليهم من القوارع والزواجر، {ولا تُسمِع الصمَّ الدعاءَ} أي: الدعوة إلى أمر من الأمور {إذا وَلَّوا مدبرين} عنك. وتقييد النفي بالإدبار؛ لتكميل التنبيه وتأكيد النفي، فإنهم مع صمَمهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي، مولون على أدبارهم. ولا ريب أن الأصم لا يسمع الدعاء، مع كون الداعي بمقابلة صماخة، قريباً منه، فكيف إذا كان خلفه بعيداً منه؟.
{وما أنت بهادي العُمى عن ضلالتهم} هدايةً موصلةً إلى المطلوب، كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]؛ فإن الاهتداء منوط بالصبر في الحس، وبالبصيرة في المعنى. ومَن فقدهما لا يتصور منه اهتداء، و{عن} متعلق بهادي؛ باعتبار تضمنه معنى الصرف، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة في نفي الهداية. {إن تُسْمِعُ} أي: ما تُسمع سماعاً يجدي السامع وينفعه {إلا من يؤمن بآياتنا} أي: من عَلِمَ الله أنهم يؤمنون بآياته. {فهم مسلمون}؛ مخلصون، من قوله: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} [البقرة: 112] أي: جعله سالماً لله خالصاً. جعلنا الله ممن أسلم بكليته إليه. آمين.
الإشارة: إذا وقع الاختلاف في الأحكام الظاهرة، وهي ما يتعلق بالجوارح الظاهرة، رُجع فيه إلى الكتاب العزيز، أو السُنَّة المحمدية، أو الإجماع، أو القياس، وإن وقع الاختلاف في الأمور القلبية، وهي ما يتعلق بالعقائد التوحيدية، من طريق الأذواق أو العلوم، يُرجع فيه إلى أرباب القلوب الصافية، فإنه لا يتجلى فيها إلا ما هو حق وصواب. فلا يمكن قلع عروق الشكوك والأوهام، والوساوس من القلوب المُسوسة، إلا بالرجوع إليهم وصحبتهم، ومن جمع بين الظاهر والباطن، رجع إليه في الأمرين معاً.
ذكر ابن الصباغ أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنه كان يُناظر جماعة من المعتزلة، ليردهم إلى الحق، فدخل عليه رجل من القراء، يُقال له: أبو مروان، فسلَّم عليه، فقال له الشيخ: اقرأ علينا آية من كتاب الله، فأجرى الله على لسانه، من غير قصد، قوله تعالى: {فتوكل على الله إنك على الحق المبين} إلى قوله: {ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون} فتهلل وجه الشيخ، وقال: ما بعد بيان الله من بيان، فتابوا واهتدوا إلى الحق، ورجعوا عن مذهبهم، وشفا الله قلوبهم من مرض الاعتزال. فهذا شأن العارفين بالله، جعلهم الله شفاء من كل داء، لكن الأعمى والأصم لا يُبصر الداعي، ولا يَسمع المنادي. ولذلك قال تعالى: {فإنك لا تُسمع الموتى..} إلخ: قال الورتجبي: الميت: من ليس له استعداد لقبول المعرفة الحقيقية بغير الدلائل، والأصم: من كان أذن قلبه مسدودة بغواشي القهر، ومن كان بهذه الصفة لا يقبل إلا ما يليق بطبعه وشهواته. اهـ.

.تفسير الآية رقم (82):

{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)}
يقول الحق جل جلاله: {وإذا وقع القولُ عليهم} أي: وقع مصداق القول الناطق بمجيء الساعة، بأن قَرُب إتيانها، وظهرت أشراطها، فأراد بالوقوع: دنوه واقترابه، كقوله: {أتى أَمْرُ الله...} [النحل: 1] رُوي أن ذلك حين ينقطع الخير، ولا يُؤمر بمعروف ولا يُنهى عن منكر، ولا يبقى منيب ولا تائب. و{وقع}: عبارة عن الثبوت واللزوم، وهذا بمنزلة: {حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} [الزمر: 19] أي: وإذا انتجز وعد عذابهم التي تضمنه القول الأزلي، وأراد أن ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب، أخرج لهم دابة من الأرض. وفي الحديث: «إن الدابة، وطلوع الشمس من المغرب، من أول الأشراط».
فلا ينبغي لهؤلاء الكفرة ترك الإيمان حيث ينفعهم، ويتطلبون وقوع الساعة الموعود بها، التي لا ينفع الإيمان لمن لم يكن آمن، مع ظهور مقدماتها، فضلاً عنها. فإذا وقع الوعد وَسَمَت الدابة مَن لم يؤمن بِسمة الكفر، وكان ذلك طبعاً وختماً، فلا يقبل منه إيمان، ويقال له: أيها الكافر لم تؤمن بالآيات غيباً، فلا يقبل منك بعد رؤيتها عيناً وهذا معنى قوله: {أخرجنا لهم دابةً من الأرض}، وهي الجساسة، طولها ستون ذراعاً، لا يدركها طالبٌ، ولا يفوتها هاربٌ، لها أربع قوائم، وزغب، وريش، وجناحان. وقيل: لها رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن أيّل، وعنق نعامة، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة هرّة، وذنب كبش، وخف بعير، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً، تخرج من الصفا فتكلّمهم بالعربية فتقول {أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} أي: بخروجي؛ لأن خروجها من الآيات، وتقول: ألا لعنة الله على الظالمين.
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: «تأتي الدابة المؤمن، فتُسلم عليه، وتأتي الكافر فتخطه- أي تسمه- في وجهه». وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَخْرُجُ الدَّابةُ مَعها خاتمُ سُليمانَ، وعَصا مُوسى، فتَجْلُو وَجْهَ المُؤمِن، وَتَخْتُم أنْفَ الكافِر بالخاتَم ختَّى أَنَّ أَهْلَ الحِواء مجْتَمِعُون فيقول: هاها يا مُؤمْن ويقول: هاها يا كافِرُ» وهي بعد نزول عيسى وطلوع الشمس من مغربها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وإذا وقع القول على قوم بإسدال الحجاب، وإدامة غلق الباب، أخرج لهم جاهل بالله، يكلمهم بادعاء التربية، فيأخذون عنه، ويقتدون به. قال في المباحث:
واعلم بأن عُصبة الجُهال ** بهائم في صور الرجال

فالجاهد بالله دابة في الأرض: أنَّ الناس كانوا بآياتنا الدالة علينا- وهم العلماء بالله، أهل الشهود والعيان- لا يُوقنون بوجودهم، ولا يعرفون وجود الخصوصية عندهم. فإذا أراد الله تعب عبد، وإبقاءه في غم الحجاب، ألقاه إلى شيخ جاهل بالله، أو: إلى ميت يتخذه شيخاً، ويفنى محبته، فلا يرجى فلاحه في طريق الخصوصية، ما دام مقيداً به، فإن تركه واقتدى بالعارف الحي، فقد هيأه لرفع الحجاب. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (83- 86):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)}
قلت: {ماذا} تأتي على أوجه؛ أحَدُها: أن تكون ما: استفهاماً، وذا: إشارة نحو: ماذا التواني. الثاني: أن تكون ما: استفهاماً، وذا: موصولة، كقول لبيد:
ألا تَسْأَلانِ المرْءَ ماذا يُحاوِلُ ** أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلالٌ وباطِلُ

الثالث: {ماذا} كله: استفهام على التركيب، كقولك: لماذا جئت؟. الرابع: أن تكون {ماذا} كله: اسم جنس بمعنى شيء أو: بمعنى الذي كقوله: دعني ماذا علمت؟، وتكون ذا زائدة. انظر القاموس.
يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {يوم نحشُرُ من كل إمةٍ فوجاً}، الفوج، الجماعة الكثيرة. و{مِنْ}: للتبعيض، أي: واذكر يوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة {ممن يُكَذِبُ بآياتنا}، {مِن}: لبيان الفوج، أي: فوجاً مكذبين بآياتنا، المنزلة على أنبيائنا، {فهم يُوزَعُون}: يُحبس أولهم على آخرهم، حتى يجتمعوا، حين يُساقون إلى موضع الحساب. وهذه عبارة عن كثرة العدد، وتباعد أطرافهم، والمراد بهذا الحشر: الحشر للعذاب، والتوبيخ والمناقشة، بعد الحشر الكلي، الشامل لكافة الخلق.
وعن ابن عباس: (المراد بهذا الفوج: أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة، يُساقون بين يدي أهل مكة) وهكذا يُحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار.
{حتى إِذا جاؤوا} إلى موقف السؤال والجواب، والمناقشة والحساب، {قال} أي: الله عز وجل، موبخاً لهم على التكذيب: {أَكَذَّبتم بآياتي} المنزلة على رسلي، الناطقة بلقاء يومكم، {و} الحال أنكم {لم تُحيطوا بها علماً} أي: أكذبتم بها في بادئ الرأي، من غير فكر، ولا نظر، يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق حتماً. وهذا نص في أن المراد بالآيات في الموضعين هي الآيات القرآنية. وقيل: هو عطف على كذبتم، أي: أجمعتم بين التكذيب وعدم التدبر فيها. {أم ماذا كنتم تعملون}؟ حيث لم تتفكروا فيها، فإنكم لم تُخلقوا عبثاً. أو: أيُّ شيء كنتم تعملون، استفهام، على معنى استبعاد الحجج، أي: إن كانت لكم حجة وعمل فهاتوا ذلك. وخطابهم بهذا تبكيت لهم. ثم يُكبون في النار، وذلك قوله تعالى: {ووقع القولُ عليهم} أي: حلَّ بهم العذاب، الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله ونزوله، {بما ظَلموا}: بسبب ظلمهم، الذي هو تكذيبهم بآيات الله {فهم لا ينطقون}؛ لانقطاعهم عن الجواب بالكلية، وابتلائهم بشغل شاغل من العذاب الأليم، يشغلهم العذاب عن النطق والاعتذار.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث، وما ينشأ بعد ذلك، بقوله: {ألم يروا أنَّا جعلنا الليلَ ليَسكُنوا فيه}، الرؤية هنا قلبية، أي: ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالنوم والقرار.
{والنهارَ مبصراً} أي: يُبصروا، بما فيه من الإضاءة، طرق التقلب في أمور المعاش. وبولغ فيه، حيث جعل الإبصار الذي هو حال الناس، حالاً له، ووصفاً من أوصافه، بحيث لا ينفك عنها، ولم يسلك في الليل هذا المسلك؛ لأن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير النهار في الإبصار. قاله أبو السعود. قلت: وقد جعله كذلك في قوله: {وَجَعَلَ الليل سَكَناً} [الأنعام: 96] فانظره.
{إنَّ في ذلك لآياتٍ} كثيرة {لقوم يؤمنون}؛ يُصدِّقون، فيعتبرون، فإنَّ من تأمل في تعاقب الليل والنهار، واختلافهما على وجوه بديعة، مبنية على حِكَمٍ رائقة، تحار في فهمها العقول، وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل، المحاكية للموت، بضياء النهار، المضاهي للحياة، وعاين في نفسه غلبة النوم، الذي هو يضاهي الموت، وانتباهه منه، الذي هو يضاهي البعث، قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
قال لقمان لابنه: يا بُني إن كنت تشك في الموت فلا تنم، فكما أنك تنام قهراً؛ كذلك تموت، وإن كنت تشك في البعث فلا تنتبه، فكما أنك تنتبه بعد نومك؛ كذلك تُبعث بعد موتك. اهـ. وبالله التوفيق.
الإشارة: يوم نَحشر من كل أمة فوجاً يُنكر على أهل الخصوصية، ممن يكذب بآياتنا، وهم العارفون بنا، الدالون علينا، المعرِّفون بنا، فهم يُوزعون: يُجمعون للعتاب، حتى إذا جاؤوا إلينا بقلب سقيم، قال: أكذَّبتم بأوليائي، الدالين على حضرتي، بعد التطهير والتهذيب، ولم تُحيطوا بهم علماً، منعكم من ذلك حب الرئاسة والجاه، أم ماذا كنتم تعملون؟. ووقع القول عليهم بالبقاء مع عامة أهل الحجاب، فهم لا ينطقون، ولا يجدون اعتذاراً يُقبل منهم. ألم يعلموا أنهم يموتون على ما عاشوا عليه، ويُبعثون على ما ماتوا عليه، فهلاّ صحبوا أهل اليقين الكبير،- وهو عين اليقين أو حق اليقين المستفاد من شهود الذات الأقدس- فيكتسبوا منهم اليقين، حتى يموتوا على اليقين ويُبعثوا على اليقين. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (87- 90):

{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)}
يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {يومَ يُنفَخُ فِي الصُّور}، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل- عليه السلام- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما فرغ الله تعالى من خلق السموات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخص بصره إلى العرش، حتى يؤمر، قال: قلت: كيف هو؟ قال: عظيم، والذي نفسي بيده إن أعظم دارة فيه كعرض السموات والأرض» وفي حديث آخر: «فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة، فيأمر بالنفخ فيه، فينخ نفخة، لا يبقى عندها في الحياة أحد، غير من شاء الله تعالى؛ وذلك قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} [الزمر: 68]، ثم يؤمر بأخرى، فينخ نفخة لا يبقى معها ميت إلا بُعث» وفي رواية: «فينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح، كأنها النحل، فتملأ ما بين السماء والأرض، وتأتي كل روح إلى جسدها، كما تأتي النحل إلى وكرها. وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68]».
قال أبو السعود: والذي يستدعيه النظم الكريم أن المراد بالنفخ ها هنا: النفخة الثانية، وفي الفزع في قوله تعالى: {ففزع من في السماوات ومن في الأرض} ما يعتري الكل عند البعث والنشور، بمشاهدة الأمور الهائلة، الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق، من الرعب والتهيب، الضروريين، الجبلين في كل نفس. وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف عليه مضارعاً؛ للدلالة على تحقيق وقوعه. اهـ. وظاهره أن النفخ مرتان فقط، واعتمده القرطبي وغيره، وصحح ابن عطية أنها ثلاث، ورُوي ذلك عن أبي هريرة: نفخة الفزع؛ وهي فزع حياة الدنيا، وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور.
وقوله: {إلا من شاء الله} أي: ألاَّ يفزع، وهو من ثبّت الله قلبه، فإن قلنا: المراد بها النفخة الثانية، فالمستثنى: هم من سبقت لهم الحسنى، بدليل قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] وإن قلنا: هي نفخة الصعق، فالمستثنى: قيل: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، لكن يموتون بعد صعق الخلق. وقيل: الحور وحَملةُ العرش، وإن قلنا: المراد نفخة الفزع في الدنيا، فالمستثنى: أرواح الأنبياء والأولياء والشهداء والملائكة.
ثم قال تعالى: {وكلٌّ أَتَوْهُ} بصيغة الماضي، أي: وكل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروه في موقف الحساب، بين يدي الله جل جلاله، والسؤال والجواب: أو: وكل حاضروه، على قراءة إسم الفاعل، وأصله: آتيوه، حال كونهم {داخرين}: صاغرين أذلاء.
{وترى الجبالَ} حال الدنيا {تحسبُها جامدةً}؛ واقفة ممسّكة عن الحركة، من: جمد في مكانه: إذا لم يبرح.
{وهي تمرُّ مرَّ السحابِ} أي: مراً مثل مر السحاب، التي تسيرها الرياح، سيراً حثيثاً، والمعنى: أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة في مكان واحد؛ لِعظمها، وهي تسير سيراً سريعاً، كالحساب إذا ضربته الرياح، وهكذا الأجرام العظام، إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها. ومثال ذلك: الشمس؛ لعظم جرمها وبُعدها لا تتبين حركتها، مع كونها أسرع من الريح.
والذي في حديث أبي هريرة: أنَّ تسيير الجبال يكون بعد نفخة الفزع وقبل الصعق.
ونص الحديث- بعد كلام تقدم: «فيأمر إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات والأرض، إلا من شاء الله، فيأمره فيمدها- أي: النفخة- ويطيلها، فيُسير الله الجبالا، فتمر مر السحاب، فتكون سراباً، وتَرْتج الأرض بأهلها رجاً، فتكون كالسفينة تضربها الأمواج، وتقلبها الرياح وهو في قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات: 6] الآية، فتميد الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين، هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار هاربة، فتلقاها الملائكة تضرب وجهها وأدبارها، فترجع، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بعضاً، وهو قوله: {يَوْمَ التناد يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ...} [غافر: 33] الآية فبينما هم كذلك؛ إذ تصدعت الأرض، من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً، لم يروا مثله» ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والأموات يومئذٍ لا يعلمون بشيء من ذلك» قال أبو هريرة: قلت: يا رسول الله فمن استثنى الله من الفزع؟ قال: «أولئك الشهداء».
قلت: ومثلهم الأنبياء والأولياء؛ إذ هم أعظم منهم، وأحياء مثلهم. ثم قال عليه الصلاة والسلام: «وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، وهم أحياء عند ربهم يُرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وهو عذاب يبعثه الله على شرار خلقه». وهو قوله تعالى: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] إلى قوله: {ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2] فيمكثون طويلاً، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل، فينفخ نفخة الصعق، فيصعق من في السموات، ومن في الأرض، إلا من شاء الله، فإذا اجتمعوا في البرزخ، جاء ملك الموت إلى الجبار، فيقول: قد مات أهلُ السموات والأرض، إلا من شاء الله، فإذا اجتمعوا في البرزخ جاء ملك الموت إلى الجبار فيقول: قد مات أهل السموات والأرض إلا من شئتَ فيقول الله تعالى، وهو أعلم: مَن بقي؟ فيقول: بقيتَ أنت الحي القيوم، الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل، وإسرافيل وبقيتُ أنا، فيقول تعالى: فليمتْ جبريل وميكائيل، فينطق الله العرش، فيقول: أيّ رب يموت جبريل، وميكائيل! فيقول: اسكت، إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي، فيموتان. ثم يأتي ملك الموتُ الجبارَ، فيقول: أي رب قد مات جبريل وميكائيل، فيقول- وهو أعلم: من بقي؟ بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي إسرافيل، وبقيتُ أنا.
فيقول: ليمتْ حملة العرش، فيموتون، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل، ثم يقول: ليمت إسرافيل، فيموت، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب؛ قد مات حملة عرشك، فيقول، وهو أعلم: من بقي؟ فيقول: بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا، فيقول: أنت خلق من خلقي، خلقتك لِما رأيتَ، فمتْ، فيموت. فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فكان آخراً، كما كان أولاً، طوى السماء طي السجل للكتاب، فيقول: أنا الجبار، {لِمن الملك اليوم}؟ فلا يجيبه أحد، ثم يقول تعالى: {لله الواحد القهار} ثم تُبدل الأرض غير الأرض، والسموات يبسطها بسطاً، ثم يمدها مدّ الأديم العكاظي، لا ترى فيها عِوَجاً ولا أمتاً.
ثم قال: ثم ينزل ماء من تحت العرش، كمني الرجل، ثم يأمر الله السحاب أن تمطر أربعين يوماً، حتى يكون فوقهم اثني عشر ذراعاً، ويأمر الله تعالى الأجساد أن تنبت كنبات البقل، حتى إذا تكاملت أجسادهم، كما كانت، قال الله تعالى: ليحيَى حملة العرش، فيحيون، ثم يقول الله تعالى: ليحيى جبريل وميكائيل وإسرافيل، فيحيون، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل، فيأخذ الصور فيضعه على فيه، ثم يدعو الله تعالى الأرواح، فيؤتى بها تتوهج أرواح المؤمنين نوراً، والأخرى ظلمة، فيقبضها، ثم يلقيها في الصور، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح، كأنها النحل، وقد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول تعالى: لترجعن كل روح إلى جسدها، فتدخل الأرواح الخياشيم، ثم تمشي في الأجساد، مشي السم في اللديغ، ثم تنشق الأرض عنهم سراعاً، فأنا أول من تنشق عنه، فتخرجون منها إلى ربكم تنسلون، عراةً، حفاةً، غُرلاً، مهطعين إلى الداعي، فيقول الكافر: هذا يوم عسير. نقله الثعلبي.
ثم قال تعالى: {صُنعَ الله}، هو مصدر مؤكد لمضمون ما قبله، أي: صَنَعَ الله ذلك صُنعاً، على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور، وما ترتب عليه جميعاً. قصد به التنبيه على عِظَم شأن تلك الأفاعيل، وتهويل أمرها، والإيذان بأنها ليست بطريق الإخلال بنظم العالم، وإفساد أحوال الكائنات، من غير أن تدعو إليه داعية، بل هي من بدائع صنع الله تعالى، المبنية على أساس الحكمة، المستتبعة للغايات الجليلة، التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع، على الوجه المتين، والنهج الرصين كما يعرب عنه قوله: {الذي أتقنَ كلَّ شيء} أي: أحكم خلقه وسوّاه، على ما تقتضيه الحكمة.
وقوله تعالى: {إنه خبير بما تفعلون}: تعليل لكون ما ذكر صنعاً محكماً له تعالى؛ لبيان أن علمه بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها، مما يدعو إلى إظهارها وبيان كيفياتها، على ما هي عليه من الحسن والسوء، وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرهم.
وقوله تعالى: {من جاء بالحسنةِ فله خير منها}: بيان لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أجزيتها عليها، أي: من جاء من أولئك الذين أتوه بالحسنة فله خير منها، باعتبار أنه أضعفها بعشر، أو: باعتبار دوامه وانقضائها، وعن ابن عباس رضي الله عنه: الحسنة: كلمة الشهاة {وهم} أي: الذين جاؤوا بالحسنات {من فزَعٍ يومئذ} أي: من فزع هائل، وهو الفزع الحاصل من مشاهدة العذاب، بعد تمام المحاسبة، وظهور الحسنات والسيئات. وهو المراد في قوله تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103].
وقال ابن جريج: حين يُذبح الموت ويُنادى: يا أهل الجنة؛ خلود لا موت، ويا أهل النار؛ خلود لا موت. فيكون هؤلاء {من فزع يومئذٍ}، أي: يوم إذ ينفخ في الصور وما بعده {آمنون} لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل، ولا يلحقهم ضرره أصلاً. وأما الفزع الذي يعتري كل من السموات ومن في الأرض، غير ما استثناه اله تعالى، فإنما هو التهيب والرعب الحاصل في ابتداء النفخة، من معاينة فنون الدواهي والأهوال، ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة، وإن كان آمناً من لحوق الضرر. قال جميعه أبو السعود.
{ومن جاء بالسيئة} قيل: هو الشرك. {فكُبَّتْ وجُوهُهُم في النار}، أي: كُبوا فيها على وجوههم منكوسين. ويقال لهم: {هل تُجزَون إلا ما كنتم تعملون} في الدنيا من الشرك والمعاصي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من أراد أن يكون ممن استثنى الله من الفزع والهول، فليكن قلبه معموراً بالله، ليس فيه غير مولاه، ولا مقصود له في الدارين إلا الله، وظاهره معموراً بطاعة الله، متمسكاً بسنة رسول الله، هواه تابع لِما جاء من عند الله، لا شهوة له إلا ما يقضي عليه مولاه، فبهذا ينخرط في سلك أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين سبقت لهم الحسنى، لا يحزنهم الفزع الأكبر، وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون. جعلنا الله من خواصهم، بمنِّه وكرمه آمين.
وقوله تعالى: {وترى الجبالَ تحسَبها جامدةً...} الآية. كذلك قلوب الراسخين في العلم بالله، لا تؤثر فيهم هواجم الأحوال والواردات الإلهية، بل تهزهم في الباطن، وظواهرهم ساكنة، كالجبال الراسية، قيل للجنيد: قد كنت تتواجدُ عند السماع، والآن لا يتحرك فيك شيء؟ فتلى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب}.
وقوله تعالى: {من جاء بالحسنة} أي: بالخصلة الحسنة، وهي المعرفة {فله خير منها} وهو دوام النظرة والحبرة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، {ومن جاء بالسيئة} هي الجهل بالله، فينكس وجهه عن مواجهة المقربين. والعياذ بالله.